لقد ثبت- بصورة لا تقبل الجدل- أن الفن الحديث يتفوق على أية فلسفة ظهرت لتناقش موضوعه أو تعرض مشكلاته، كما ثبت أنه عصيّ على أية نظرية وضعت لتفسر دوافعه أو لتضعه على مخطط ما، ذلك أن فنان العصر الحديث يتمتع بالحرية الكاملة التي لم يحظ بها سلفه من قبل.
ومن هنا كانت آثاره مثار جدل ومصدر توليد نظريات متضاربة إضافة إلى الاتهام الذي يوجهه الغالبية من الناس إلى الفن الحديث بوصفه تهريجا وشعوذة على أن بعض فناني العصر الحديث قد استطاعوا بفضل ما أوتوا من إحساس صادق وإدراك عميق للتيارات التي تؤثر في سير الحياة وتشكلها أن يدخلوا من أوسع أبوابه وأن يجعلوا من منهاجهم في الفن شيئاً يرضى عنه كافة الناس على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم. ولعل مرد هذا الجدل والاتهام إلى اعتيادنا محاربة كل ما يخالف الوسائل المألوفة بيننا في التذوق، ولهذا كان لزاماً علينا أن نوجهه إلى الاهتمام بالتخلص من المقاييس التقليدية في التقييم على أسس أدبية عند مشاهدة آثار الفن التشكيلي المعاصر فنكف عن المطالبة بالقصة التي كانت محور النشاط الفني بشكله المعروف من قبل ولنستمتع بما تعرضه لوحات الفنانين المعاصرين من بناء وقيم نابعة من طبيعة التشكيل ذاته.
ومنذ نبذ الفنانون التشكيليون عرض القصة والموضوع واتجهوا إلى الخلاء يعبرون عن جمال الطبيعة والكائنات، ويختارون من واقعها المباشر دوافعه الداخلية لا صوره السحطية تبدت ملامح الذاتية الفردية تبعاً لإحساس كل فنان بآثار في نفسه. ولقد تم التغيير في البداية على يد تلك الجماعة التي عرفت برسامي الهواء الطلق وسرعان ما أصبح الرسم نفسه هو الموضوع، ولكن التغيير الشامل قد تم من بعد بأولئك الفنانين الذين لم يمروا بفلك الدراسات الأكاديمية والذين لم يدر بخلد أحد منهم أنه سيحظى بلقب فنان في يوم ما.